(قَالُواْ لاَ تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ وَامْرَأَتُهُ قَآئِمَةٌ فَضَحِكَتْ)
أتفقت التوراة[1] مع القرآن[2] أن اسم إسحاق[3] عليه السلام لضحك أمه. ولكن تحريف التوراة جعل أهل الكتاب يجهلون (سبب) ضحكها. فزعم كتبة التوراة أن أم إسحاق ضحكت[4] (تعجباً واستغراباً واندهاشاً) لدى سماعها البشرى بإسحاق، لأنها لم تصدق[5] أن يولد لهما وهما عجوزان قد شاخا، وهي قد عقرت وعقمت. وليتهم اقتصروا عليه، ولكن تمادوا فأقحموا إبراهيم[6] عليه السلام في ضحك التعجب من البشرى (قبل ضحك زوجته بعام)، بل وجعلوا كل من يسمع بذلك يضحك استغراباً واندهاشاً[7].
بيان القرآن لسبب ضحك زوج إبراهيم
{وَلَقَدْ جَاءتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُواْ سَلاَمًا قَالَ سَلاَمٌ فَمَا لَبِثَ أَن جَاء بِعِجْلٍ حَنِيذٍ} (69) {فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لاَ تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُواْ لاَ تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ} (70) {وَامْرَأَتُهُ قَآئِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَقَ وَمِن وَرَاء إِسْحَقَ يَعْقُوبَ} (71) {قَالَتْ يَا وَيْلَتَى أَأَلِدُ وَأَنَاْ عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ} (72) {قَالُواْ أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللّهِ رَحْمَتُ اللّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَّجِيدٌ} (73) سورة هود
الضحك (كما بيّن القرآن) ليس من سماع البشرى ولا علاقة له بها، لأن زوجة إبراهيم ضحكت (قبل)[8] تبشيرها [فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا]. والفاء في (فَبَشَّرْنَاهَا) تفيد الترتيب والتعقيب[9]. فكأن الآية تخبر أن الزوجة عندما ضحكت التفت إليها الملائكة، فبشروها بمولود. فالتوراة اختلّ فيها الترتيب (1- بشرى، 2- ضحك)[10]، فأعاده القرآن صحيحاً (1- ضحك، 2- بشرى)[11].
كلمة (فَضَحِكَتْ) فاؤها سببية، وعلينا إذن أن ننظر لما (قبلها) لنعلم ما سبّب الضحك. وما قبل (وَامْرَأَتُهُ قَآئِمَةٌ فَضَحِكَتْ)، هو : (قَالُواْ لاَ تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ). فيتبين أن ضحك الزوجة كان ضحك (أمن وسرور وفرح وسعادة)، لزوال خوفها (لاَ تَخَفْ)، ولعلمها أن ضيف زوجها هم رسل الله (إِنَّا أُرْسِلْنَا).
فائدة خبر [وَامْرَأَتُهُ قَآئِمَةٌ]
عبارة الآية [وَامْرَأَتُهُ قَآئِمَةٌ] تفيد أن الزوجة كانت (حاضرة وشاهدة) على ما يحدث من أمور بين زوجها وضيفه، فترى امتناعهم عن الأكل، وتشاطر زوجها قلقه وخوفه [{قَالَ إِنَّا مِنكُمْ وَجِلُونَ} (52) سورة الحجر/ {فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً } (28) سورة الذاريات/ { نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً } (70) سورة هود]. وإذن هي كزوجها [{فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ } (74) سورة هود] مرتاعة خائفة[12] (تظنّ من الضيوف شراً). لكنها لما سمعت وهي حاضرة شاهدة (قائمة) قول الملائكة [{قَالُواْ لاَ تَوْجَلْ } (53) سورة الحجر/ { قَالُوا لَا تَخَفْ } (28) سورة الذاريات]، وسمعت قولهم [{إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ} (70) سورة هود]، علمت عندئذ أنهم رسل الله، ففرحت وابتهجت وسرّت وأمنت واطمأنت وذهب عنها الروع، فضحكت[13] (ضحك سرور وسعادة وفرح ورضا) لزوال خوفها ولشعورها بالأمن.
ذكرت كتب التفسير هذا الفهم بوضوح
فهم جمهور المفسرين ذلك فظهر واضحاً في أقوالهم: [وإنما ضحكت سروراً بالأمن][14]، [ضحكت سرورًا بالأمن منهم][15]، [فضحكت امرأته سرورا بفرحه][16]، [ضحكت سروراً بالأمن لأنها خافت كما خاف ابراهيم][17]، [ضحكت سروراً بالسلامة][18]، [سرورا بالأمن][19]، [ضحكت لزوال الخوف عنها وعن إبراهيم][20]، [بزوال الخيفة][21]، [ضحكت من تأمينهم لإبراهيم][22]، [ضحكت سرورا بما زال من الخوف عنها وعن إبراهيم][23]، [فرحت بزوال ذلك الخوف عن إبراهيم عليه السلام][24]، [فضحكت" لقولهم : "لا تخف" سرورا بالأمن][25]، [سرورا بزوال الخيفة][26].
ضحك الفائزين لا يبعد عن ضحك زوج إبراهيم
كذلك سيكون حال وجوه المؤمنين يوم القيامة [{ضَاحِكَةٌ مُّسْتَبْشِرَةٌ} (39) سورة عبس]، تضحك وجوههم سروراً وفرحة وبهجة ورضا وسعادة[27]، لأن الخوف ذهب عنهم[28] والأمن قد شملهم[29]. فالوجوه الضاحكة يوم القيامة هي (البارقة[30] المتلألئة[31] الواضحة المستبينة[32] البيضاء[33] الظاهرة[34] الزاهرة[35])، وكلها معان لجذر ضحك. وكذلك زوج إبراهيم (عندما ذهب عنها الروع وجاءها الأمن)، ضحكت (= برق وجهها وتلألأ ووضح وابيضّ وظهر وأزهر). ولعل مثله معنى (أضحك) [{وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى} (43) سورة النجم]، أي أفرح وأسرّ وأرضى وأسعد[36].
زوجة إبراهيم تعجّبت (ولم تضحك تعجباً)
قول كتبة التوراة[37] أن زوجة إبراهيم (ضحكت) غير مصدّقة، عند سماعها بشرى الولد، هو اتهام بما لم تفعل. نعم هي وزوجها استغربا وتعجّبا، ولكنها (لم تضحك). وقد تكون عبارة التوراة [فضحكت سارة في باطنها] تحريف في الأصل [{قَالَتْ يَا وَيْلَتَى أَأَلِدُ وَأَنَاْ عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ} (72) سورة هود/ {فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَهَا وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ } (29) سورة الذاريات]. كما قد تكون عبارة [فقال الرب لابراهيم لماذا ضحكت سارة ... فانكرت سارة قائلة لم اضحك لانها خافت فقال لا بل ضحكت]، تحريف [{قَالُواْ أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللّهِ } (73) سورة هود/ {قَالُوا كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكِ} (30) سورة الذاريات] أو من آثار النص المفقود الذي فيه خوفها من الضيوف.
معنى اسم إسحاق
يبدو أن الملائكة هم من سمّوه بإسحاق [فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَقَ]. فلعلهم لما رأوا زوجة إبراهيم تضحك (نتيجة زوال خوفها وشعورها بالأمن)، كأنهم قالوا لها على الفور ستلدين من يضحك[38] (كما أنت الآن تضحكين)[39]. وعلى سبيل التوضيح لمعنى اسم إسحاق، كأن الملائكة لمّا رأوها في تلك اللحظة سعيدة (تضحك)، قالوا لها في الحال أنت (أم سعيد). وإذن فلعل إسحاق قد عاش[40] ضاحك الوجه (سعيداً رضيّاً[41])، يشعر (بالأمن والرضا والإطمئنان والهدوء والسرور والسعادة)، كما شعرت أمه في لحظاتها (الضاحكة) حين زال خوفها وأحسّت بالأمن.
ونجد كتبة التوراة بالمقابل قد أساءوا فهم اسم إسحاق فتارة زعموا أن إسماعيل ضحك[42] (مع/من/على) إسحاق[43]، وتارة زعموا أن إسحاق ضحك (ضحك ملاعبة)[44] مع زوجته في قصة مفتراة[45].
وقد جاء لدى أهل الكتاب أن ضحك سارة بمعنى السرور والفرح في ترجوم انقلوس الأرامي الذي ترجم فعل صحق (=ضحك) بالنص العبري[46] المتعلق بقول زوجة إبراهيم، إلى جذر (حدي)[47] أي فرح وابتهج وسرّ. وكذا بتفسيرهم[48].
لماذا لم يضحك إبراهيم؟
المرأة عموماً أكثر خوفاً من الرجل وأظهر لجزعها وأسمع. وليس غريباً أن تولول المرأة أو ترفع صوتها بالبكاء عند المصيبة. بينما الرجل عموماً أربط لجأشه وأخفى لمشاعره وأطوى لأمره. فإبراهيم شعر بالخوف ولكن ليس كشدة خوف زوجته، ولا ننسى قوة إيمان إبراهيم وشجاعته البالغة[49]. ولنقارن بين (هدوء أو اعتدال) رد فعل إبراهيم عند سماعه البشرى [{قَالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلَى أَن مَّسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ} (54) {قَالُواْ بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ فَلاَ تَكُن مِّنَ الْقَانِطِينَ} (55) {قَالَ وَمَن يَقْنَطُ مِن رَّحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ الضَّآلُّونَ} (56) سورة الحجر]، وبين (وضوح) رد فعل زوجته [{فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَهَا وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ } (29) سورة الذاريات/{قَالَتْ يَا وَيْلَتَى أَأَلِدُ وَأَنَاْ عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ} (72) سورة هود].
وقد أشكل على أهل الكتاب ضحك[50] إبراهيم فسعوا لتأويله. لكن النص التوراتي المفترى استعمل مع إبراهيم نفس الجذر العبري صحق[51] (= ضحك) الذي اُستعمِل مع زوجه. واستبعد[52] قلب إبراهيم بشرى الولد (كما استبعده قلب[53] زوجته)، وقنع إبراهيم بحياة اسماعيل[54]. وابتدأ الله ردّه عليه بكلمة (بل)[55]. وكل هذا يعني أن ضحك إبراهيم كان تعجباً واستغراباً وارتياباً[56] (كضحك زوجته تماماً). لكن أهل الكتاب أرادوا نفي (ذلك المعنى) عن إبراهيم، فغيّر ترجوم انقلوس الأرامي كلمة صحق (=ضحك) بالنسبة لإبراهيم إلى جذر (حدى)[57] بمعنى بهجة وفرح وسرور. وبمثله فسّر الأحبار ضحك إبراهيم[58].
لماذا جهل أهل الكتاب سبب ضحك زوجة إبراهيم؟
السبب الرئيس هو فقدهم نص عدم أكل الملائكة [فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لاَ تَصِلُ إِلَيْهِ/ {فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ } (27) سورة الذاريات]، أو أصابه تحريف جعل الملائكة يأكلون[59] (كما أكلوا[60] بقصة لوط). وبالتالي جهل الأحبار (خوف) إبراهيم وزوجه (الذي سبّبه عدم تناول ضيف إبراهيم الطعام)، وهو نص ضروري لمعرفة السبب الحقيقي[61] لضحك أم إسحاق.
والسبب الآخر هو حيرة اليهود في شأن أكل الملائكة طعام البشر[62]. بل نسبوا لله قول (طعامي، رائحة سروري)[63]. بينما لم يأكل الملاك من طعام منوح[64]. ولم يعتبر التلمود أكل الإنسان وشربه من صفاته المشتركة مع الملائكة، وإنما مع الحيوانات[65]. ولما اصطدموا بخبر أكل الملائكة طعام إبراهيم ولوط أوّلوه بأنه ليس على الحقيقة[66] وإنما ظاهراً[67] فقط.
والنصارى أشد حيرة، فربما ألمح انجيل لوقا بعدم أكل الملائكة (الأرواح) لطعام البشر[68]، ولعل مثله رسالة رومية[69]. وأقرّوا يأكل المسيح طعام البشر [{مَّا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلاَنِ الطَّعَامَ انظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الآيَاتِ ثُمَّ انظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ} (75) سورة المائدة]، ثم أصرّوا على إلوهيته (ثُمَّ انظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ).
[center]