* حكم التدخين من المنظور الشرعي
الحمد لله ، والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله ، وعلى آله وصحبه ومن والاه
وبعد : فإن الناظر في الشريعة الإسلامية يجدها ـ لشمولها ـ تعالج جميع القضايا ، وتلبي جميع الحاجات . وليس هناك مسألة إلا ولها حكم ، ولا تجد حكمين لمسألة واحدة .
والذي يستقرئ نصوص الشريعة يجد أن الأدلة عامّة ، وخاصة .
فكثير من الواجبات ، وكثير من المحرمات وردت الأدلة بخصوصها .
فالصلاة واجبة ، وقد جاءت أدلة بخصوصها كثيرة كقوله تعالى { وأقيموا الصلاة } ، وقوله جل وعلا { إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا } .
وكذلك الأمر بالنسبة للزكاة والصيام والحج ، وأداء الأمانة ، وبر الوالدين ، وحفظ العهود .... قال تعالى (كتب عليكم الصيام ) ، (ولله علي الناس حج البيت) ،( وقضي ربك ألا تعبدوا إلا إياه) ، (وأوفوا بالعهد )، (أوفوا بالعقود) ، (واخفض لهما جناح الذل من الرحمة )، (ووصينا الإنسان بوالديه حسنا) ...
والاعتداء على أموال الآخرين حرام ، وقد جاءت أدلة بخصوصه كثيرة قال تعالى { ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل ...} الآية .
وكقوله سبحانه { ويل للمطففين ، الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفون وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون } .
والأمر كذلك بالنسبة للزنا والربا وشرب الخمر والعقوق وأذية الناس ، وإساءة الجوار ، والغدر والخيانة وسوء الظن بالمؤمنين وإشاعة الفاحشة في الذين آمنوا ... فهذه كلها وغيرها جاءت أدلة التحريم بخصوصها (ولا تقربوا الزنا انه كان فاحشة) ، (والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما ) ، (وأحل الله البيع وحرم الربا) ، (إنما حرم عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير ) ، (والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة )، (قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم : ألا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا) ، (واجتنبوا قول الزور) .
وهناك أمور واجبة ومندوبة ، وأمور حرام ومكروهة لم يرد نص بخصوصها ، وإنما استفيد حكمها من كليات الشريعة [ أعنى أصولها وقواعدها الكلية ] وعموماتها .
ولا نفاجىء حين لا نجد نص بخصوص الدخان لا في الكتاب العزيز ، ولا في السنة المطهرة ، ولا في أقوال الأئمة المجتهدين أصحاب المذاهب المتبوعة ؛ لأن التدخين لم يكن موجودا ولا معروفا زمن نزول القرآن ولا في الأعصار الفاضلة التي تبعته .
وليس هذا غريبا ، بل هو من قبيل واقعية الشريعة ـ والواقعية من خصائص الشريعة الإسلامية ومفاخرها ـ إذ أن الإسلام لما أنزل في ناس كانوا يألفون ويعتادون أعمالا منها الطيّب النافع ، ومنها الخبيث الضّار سواء كان نفعه أو ضرره يتعلق بالاعتقاد ، أو بالنفس أو بالعرض أو بالمال ، أو بالعقل .
فأقرّ منها الطيّب والنافع ، ونفى وحرّم الخبيث والضارّ . وشرع من الأحكام ـ غير ما ألفوه واعتادوه ـ ما ينسجم ويأتلف ويتفق مع الضرورات الخمس ؛ وهي حفظ الدين ، وحفظ النفس ، وحفظ العقل ، وحفظ النسل والعرض ، وحفظ المال . وهي كليات وأصول اتفقت الشرائع كلها على حفظها .
وإذ لم نجد دليلا خاصا من الكتاب والسنة في التدخين ، فلا نسارع إلى القول بإباحته وحلّه أخذا من قاعدة قال بها جمهور الأصوليين " الأصل في الأشياء الإباحة ".
لأن من شروط هذا الشيء أن لا يتعارض وقواعد الشريعة ومقاصدها .
وإذا نظرنا إلى التدخين من هذه الوجهة ؛ وجدناه يتعارض مع الصحة ـ بشهادة الأطباء وهم أهل اختصاص ـ وهي ضرورية لحفظ النفس .
ونجده كذلك يتعارض مع ضرورة حفظ المال ، والإنسان مستخلف في مال الله ، ومأمور أن يضع هذا المال في ما يعود عليه بالنفع ؛ من غذاء أو شراب أو دواء أو تعليم أو نحوه . والتدخين ليس بغذاء ولا دواء ، ولا يجني المدخن من سيجارته إلا أبخرتها ، أو رمادها الذي تبقيه بين أصابعه ، ليت الأمر يقف هنا ، بل والسموم التي يدخلها إلى جوفه ، فالتدخين لا يسمن ولا يغني من جوع ، وليس هو دواء ، وإنما هو داء بشهادة الأطباء .
قلنا : إن التدخين لم يكن معروفا في العصور الفاضلة ؛ زمن النبوة ، والخلافة الراشدة ، وعصر الأئمة المجتهدين ، أصحاب المذاهب المتبوعة ، فمتى عرف التدخين إذا ؟
لقد ظهر التدخين في القرن السادس عشر الميلادي حين أدخل المكتشفون الأسبان لأمريكا عادة التدخين إلى بلادهم ومنها إلى فرنسا، ثم بقية بلدان العالم.
ومنذ عرف المسلمون التدخين في أواخر القرن العاشر الهجري وأوائل القرن الحادي عشر ؛ اجتهد الفقهاء في الحكم الشرعي له، ولكنهم اختلفوا، فذهب معظمهم إلى أنه حرام، وذهب آخرون إلي أنه مكروه، وقال غيرهم إنه مباح ، وتوقف في الحكم آخرون.
وانصبّ نظر الفقهاء في تلك الفترة ـ في حكمه ـ على قدر ما نمّي اليهم من معلومات عنه، وكان قصارى ما يفعلون أن يلجؤوا إلى القياس ، ولم يثبت لديهم أن في التدخين ضررا صحيا، فكان نظرهم إلى متعاطيه أكثر من نظرهم إلى المادة التي تدخن. وقد قيل لهم إنه لا ضرر فيه، فاعتبر مشروبا من المشروبات الأخرى المباحة في حد ذاتها. وبالنسبة للمدخن اعتبروه مما تعتريه الأحكام الشرعية الخمسة، ولم تتفق كلمتهم في الحكم عليه .
وممن قال بإباحته مع الكراهة : أبو الحسنات الكمنوي وأصحاب كتب الأشباه ، وعبد الرحمن العمادي ، فقالوا : الأصل الإباحة أو التوقف.
وقال النابلسي: شرب التتن ليس حراما.
وقال الطحطاوي: كرهه شيخنا العماري كراهة تنزيهية.
وممن قال بحرمة تناوله: عبد الباقي الحنفي قال:" الحق حرمتها وتحقيقها مأخوذ من الكتاب الشريف والحديث النبوي والقواعد الشرعية والنصوص المحررة المرعية"، وخلص إلى أنه يجب تعزيز شاربها وبائعها وبائعي آلاتها.
وفتوى عمر ابن عبد الرحمن الحسيني الشافعي. وكذلك أفتى بالحرمة محمدي محمد فتح الله بن علي المغربي، ومحمد بن الصديق الزبيدي الحنفي، والشيخ عامر الشافعي حيث قال: (الدخان المشهور إن أضر في عقل أو بدن فهو حرام، وضرره بين يشهد به الحس وما قرره الأطباء في الدخان بأنواعه ". ويرى الشرنبلالي تحريمه لانتفاء الغذاء والدواء عنه، ويمنع من بيعه وشربه لأنه من الخبائث، وتلزم شاربه الكفارة في رمضان. وقال محمد بن أحمد: يحرم لأنه يورث الأمراض. وفي كتاب مجالس الأبرار: يفطر، وتعاطيه حرام للعبث واللعب واللهو. وفي كتاب التبيان: " الحق حرمته لقوله تعالى (ويحرم عليكم الخبائث) ويجب تعزير شاربه وبائعه .
وقال الشيخ عامر الشافعي: " حرام ويسقط العدالة ".
* ما دام التدخين لم يرد فيه دليل بخصوصه ؛ وجب علينا إذا أن نرجع فيه إلى أهل الاختصاص ، عملا بقوله تعالى { فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون } وأهل الذكر : هم أهل الاختصاص ؛ فنرجع إلى العالم أو الفقيه في الفتوى ، ونرجع إلى الطبيب في أمور الطبّ والتداوي ، ونرجع إلى المهندس في أمور المباني وتخطيطها ، ونرجع إلى الكيميائي في التحاليل وأمور الكيمياء ، ونرجع إلى الفيزيائي في أمور الفيزياء ... وهكذا في كل المجالات .
وأهل الاختصاص هنا هم الأطباء فيما يتعلّق بشأن الصحة ، وعلماء الاجتماع فيما يتعلق بالمدخن والبيئة التي من حوله ، وعلماء الاقتصاد في ما يتعلق بإيرادات التدخين إنتاجا وتسويقا وتصديرا ورسوما ضريبية في مقابل ما ينفق من الميزانيات في علاج مرضى التدخين وتوفير الأدوية اللازمة لهم ، ثم يأتي دور علماء الدّين ليكشفوا عن حكمه على ضوء ما ينمّى إليهم من حقائق .
وهذا من تظافر العلوم وخدمتها لبعضها البعض .
فحبذا لو رأينا بين الأساتذة المشاركين مداخلة أو مشاركة لخبراء اقتصاديين .
وإنما قلت ( ثم يأتي دور علماء الدين ليكشفوا عن الحكم ) لأن هذه مهمة العالم الفقيه ، فما كان فيه نص من كتاب ، أو من السنة الصحيحة الثابتة عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم ، فلا يعدل عنه إلا سواه ، وليس له ـ ولا لغيره ـ أن يجتهد مع مورد النص .
وما لم يرد فيه نص أو حكم صريح أعمل فيه فكره ونظر في حيثياته وملابساته ، ثم أظهر الحكم الذي يغلب على ظنّه ، أو يرجحه .
وهو في كلا الحالتين يكشف عن الحكم ويظهره ، لا أنه يقرره ابتداء ؛ لأن تشريع الأحكام استقلالا وابتداء إنما هو لله وحده ، ووظيفة الرسل عليهم السلام التبليغ ، ومهمّة العلماء الإشهار والتبيين .
· ولنستمع إلى بعض ما ورد في قرارات اللجان والمؤسسات الطبية ، وأقوال الأطباء والمختصين :
ثبت يقينا تسبب التدخين في أمراض: سرطان الرئة والشفة واللسان والبلعوم والمريء والمثانة، والتهاب الشعب الهوائية، وأمراض الأوعية الدموية والقلب، والشرايين، ومن 80% ترجع وفاتهم إلى هذه العلل وبخاصة في الدول النامية، وأثر شرب المرأة له على جنينها. وها هي ذي أقوال الأطباء في أضراره.
طبقا لما ورد بتقرير لجنة خبراء منظمة الصحة العالمية عن التدخين وآثاره في مؤتمرهم المنعقد بجنيف في ديسمبر 1974 م . وهو مؤتمر ضم نخبة من أساتذة الطب ومؤسسات الأبحاث العلمية والتثقيف الصحي وهي تضم ممثلين عن مؤسسة القلب الهولندية بلاهاي، وجامعة كامبردج بإنجلترا ، ووزارة الصحة في الاتحاد السوفيتي، وجامعة القاهرة، وفرنسا، والولايات المتحدة، وممثلين للمنظمات الدولية لمشكلات الكحول والإدمان بسويسرا، والاتحاد الدولي لمكافحة السرطان والمؤتمر العالمي الثالث عن التدخين والصحة، والجمعية الأمريكية للسرطان بنيويورك، والجمعية الدولية لأمراض القلب، والاتحاد الدولي لرعاية الطفولة، والاتحاد الدولي للتثقيف الصحي. ومنظمة العمل الدولية، وقسم الصحة المهنية والإدمان بجنيف سويسرا، والجمعية الدولية لطب الأطفال، والاتحاد الدولي للفارماكولوجى ومعهد الكيمياء الإكلينيكية، والمركز الألماني للقلب بميونخ ـ ألمانيا الاتحادية.
وانتهى هذا المؤتمر إلى أن التدخين يعتبر من أهم العوامل المسببة لسرطان الرئة والالتهابات الشعبية (القصبية) المزمنة وانتفاخ الرئة (الإمفيزيما) وقصور الدورة الدموية للقلب، وانسداد الأوعية الدموية في الأطراف .
وأوضح التقرير أيضا أن التدخين يلعب دورا في التسبب في حدوث سرطان اللسان والحنجرة والبلعوم والبنكرياس والمثانة. ويسبب الإجهاض، وولادة الأجنة ميتة، والوفاة المبكرة، وقرحة المعدة والإثني عشري. وقد أكدت التجارب على وجود مواد سرطانية ومواد مهيجة في القطران المتصاعد من دخان السجائر.
وقد أوضحت الدراسات الباثولوجية وجود التغيرات التي تسبق السرطان في الخلايا الغشائية للشعب الهوائية فيمن يدخنون، وان مكونات الدخان المعروفة، الضارة تشمل القطران والنيكوتين وأول أكسيد الكربون.
سرطان الرئة : إن الوفيات من السرطان في شتى أنحاء العالم وفي البلدان التي ينتشر بها التدخين مستمرة بلا انقطاع. وحدوث سرطان الرئة قي أي دولة وزيادته يتوقف على كثرة، تدخين السجائر، وكذلك على الزمن الذي بدأت فيه هذه العادة. وبالامتناع عن التدخين ، فان الخلايا الغشائية المبطنة للشعب الهوائية لدى المدخنين، والتي لا تخلو من ظواهر غير عادية- تعود إلى حالتها الطبيعية وتختفي فيها هذه التغيرات غير العادية في الخلايا الشاذة (والتي يفترض أنها بداية سرطانية) وهذا يعطى تأكيدا هستولوجيا للدليل الوبائي على أن إيقاف التدخين يقلل من احتمال الإصابة بالسرطان إذا قورن بمن يداومون على ممارسة التدخين.
الإلتهابات الشعبية (القصبية) وانتفاخ الرئتين (إمفيزيما) : تؤيد الدراسات أن كفاءة الرئة عند مدخن السجائر، تقل عنها عند غير المدخنين. وقد وجد أن أمراض القنوات الهوائية الصغيرة التي تسبب ذلك قد تتطور إلى درجة العجز، بسبب انسداد مزمن في القنوات الهوائية، وان هذا الانسداد في القنوات الهوائية يتكون ببطء، قبل أن يصل بعد عدة سنوات إلى درجة من العجز الشديد. ومثل هذا المريض لا يموت في العادة قبل مضى عشر سنوات على الأقل من العذاب الدائم، وهو يستميت في استنشاق الهواء وإخراجه.
مرض قصور الدورة الدموية التاجية للقلب : إن أهم تقدم حديث في المعرفة ، قد نشأ من تركم أدلة تثبت أن أول أكسيد الكربون يلعب دورا هاما في الأسباب التي تجعل من التدخين عاملا مؤثرا في زيادة حالات قصور الدورة التاجية (الإكليلية للقلب ) ويوجد أول أكسيد الكربون في الغازات المتصاعدة من تدخين السيجارة بنسبة الخمس.
ولأول أكسيد الكربون قدرة على الاتحاد بالهيموجلوبين أكثر من الأكسجين، وهو لذلك يعيق نقل الأكسجين للأنسجة.
وبتحليل التغيرات في وظائف القلب في حالات مرض الذبحة الصدرية، تبين أن ارتفاع ضغط الدم الإنبساطي وزيادة سرعة ضربات القلب تنتج عن التأثير بالنيكوتين، وأن الهبوط في وظيفة عضلة القلب مع انخفاض نسبة الضربات، ينتج من تأثير أول أكسيد الكربون.
أمراض الأوعية الدموية المخية : هناك أدلة متضاربة عن إمكان أن يكون التدخين سببا في زيادة خطر الإصابة بأمراض الأوعية الدموية المخية. وقد أظهرت الدراسات التي أجريت على نطاق واسع في الولايات المتحدة الأمريكية، زيادة ذات مغزى في معدل الوفاة من أمراض الأوعية الدموية المخية بين المدخنين.
قرحة المعدة : أشير في دراسات حديثة إلى أن التدخين يغير من التوازن بين الإفرازات الحمضية والقلوية، ويؤدى إلى ارتباك حركة فتحة البواب، مما يزيد من الارتجاع من المعدة والأثنى عشري. ويعتبر ما يحمله الدخان من النيكوتين سببا في هذه الآثار.
التدخين والحمل : ثبت من الدراسات الواسعة التي أجريت عن معدل وفيات، الأطفال حديثي الولادة في بريطانيا ان أهم آثار التدخين أثناء الحمل هي بطء نمو الجنين وزيادة فرص حدوث الوفاة حول الولادة.
التعرض غير الإرادي للدخان : الثابت أن أثر التدخين يقتصر بالدرجة الأولى على المدخن نفسه بالنسبة للأمراض ذات الخطورة على الحياة. ولكن غير المدخن الذي يتعرض لتيارات مختلفة من الدخان المتصاعد من المدخنين في شتى الاتجاهات. والموجودون في مساحات مغلقة، يتعرضون لتركيزات ضارة من الدخان، وعلى الأخص عندما يتعرضون لأول أكسيد الكربون، فضلا عن خطورة الغازات المتصاعدة على مرضى الربو ومرضي الحساسية