اللحظات التي يعيشها المقدم على تنفيذ عملية استشهادية منذ لحظة خروجه من بيته حتى مكان التنفيذ لحظات صعبة.. آلاف الأسئلة، وآلاف المشاعر، وآلاف الانفعالات تدور بداخله. يحصل على جرعة كبيرة من الثقة بالنفس والإيمان بقضيته وجرعة أكبر من المخدر يفرزها جسمه تجعله لا يشعر بجسده حتى لو بتر أو كسر أحد أطرافه.
هذا ليس حال الاستشهادي فقط، وإنما حال كل إنسان يستعد لموقف عصيب أيًّا كان هذا الموقف. فقد وضع الله بداخل كل إنسان كمية كبيرة من المورفين تجعله لا يشعر بكسر أو بتر أو جرح أي عضو من أعضاء جسده طالما وجدت انفعالات تحركه وتسيطر على تفكيره.
والسؤال الذي يتبادر للذهن: ما هي علاقة المورفين والإحساس بالألم؟ وللإجابة على هذا السؤال لا بد في البداية من التعرف على الكيفية التي نشعر بها بالألم.
ينظم المخ الشعور بالألم؛ لأن أنسجة الجلد تحتوي على مستقبلات للألم تستجيب لمؤثرات، مثل احتراق الجلد أو جرحه وكل ما قد يخرب الأنسجة. تنتقل الرسالة من المستقبلات الحسية إلى المخ الذي يشعر بتلك المؤثرات ويدركها من خلال خبراته وتجاربه السابقة، فيتعرف عليها ويبدأ في التعامل معها بتوجيه الإرشادات إلى العضلات لإبعاد العضو المعرض للخطر عن مسبب الألم.
والألم نوعان ألم حاد وله وظيفة الحماية ويهدف إلى تحذير الإنسان من إمكانية وقوع خطر أكبر من الألم، أما إذا زاد الألم عن الحد الذي يمكن أن يتحمله المريض يفقد وظيفة الحماية ويدخل في النوع الثاني وهو الألم المزمن الذي يجب التعامل معه لتخفيفه والتخلص منه.
اكتشاف البوابة
وقديمًا كان الأطباء يشبهون العصب الذي ينقل المؤثر إلى المخ بالسلك الكهربي معتقدين أن وظيفته هي نقل المؤثر إلى المخ دون التأثير فيه. ولكن هذه النظرية لم تفسر عدم وصول النبضة الكهربائية الناقلة للألم في بعض الأحيان!
ففي بعض المواقف يتعرض الإنسان لألم شديد ولا يشعر به إلا بعد مدة، مثل عدم إحساس الجندي عندما يصاب في المعركة إلا بعد انتهائها فيكتشف فجأة أن به جرح ولا يتذكر متى حدث هذا الجرح. أو في الحوادث فقد يبتر عضو من أعضاء الجسم ولا يشعر المصاب بألم البتر أو الكسر إلا أثناء إسعافه.
ولهذا بدأت أبحاث العالم البيولوجي "ملزاك" في تفسير هذه الظواهر على أساس نظرية التحكم في البوابة، وتتلخص نظرية البوابة في أن انتقال النبضة الكهربائية من بداية الخلية العصبية على سطح الجلد إلى المخ لا تنتقل كانتقال الكهرباء في السلك الكهربي، ولكن العصب الذي يربط خلية الإحساس بخلية المخ يتخلله عدة محطات تمر خلالها النبضات الكهربائية، وفي الانفعال تنشط وتفرز هذه المحطات مواد كيميائية مثبطة للألم فإذا كانت هذه المواد موجودة بدرجة أكبر من الألم تمنع انتقال النبضة الكهربائية، وبالتالي لا يشعر الإنسان بالألم، وإن كان درجة الألم أكبر منها استمرت النبضة الحاملة للألم في سريانها عبر الخلايا العصبية لتصل إلى المخ ويشعر الإنسان بالألم.
مخدر داخلي
البقعة الزرقاء تمثل الغدة النخامية
ومع استمرار الأبحاث وجد أن هذه المواد الكيميائية الطبيعية تفرزها الغدة النخامية وأجزاء أخرى من الجسم، وهي ذات تأثير يشبه مادة المورفين الذي يعمل كمادة مسكنة، بل تعطي تأثيرًا مسكنًا يكاد يفوق استعمال بعض المسكنات الكيميائية، إلا أنها بخلاف المورفين لا تسبب الإدمان؛ لأنها من إنتاج الجسم، ولها وظائف أخرى غير الإحساس بالألم.
والمواد المورفينية الداخلية أو ما يطلق عليها الإندورفينات تنقسم إلى الإندورفين والبيتا إندورفين التي تنتجها الغدة النخامية والأنكافلين التي تنتجها الطبقة الثانية والثالثة من الحبل الشوكي. كما يوجد نوع آخر من الإندورفينات يسمى ألفا إندورفين، ولكن مفعوله المسكن أقل إذا قورن بالبيتا إندورفين. ويعتقد أن البيتا إندورفين هو الذي يقوم بالدور الرئيسي في تسكين الألم، وعند حقنه في الوريد يكون له مفعول مسكن سريع.
وتنتج هذه المواد بنسب طبيعية وتزداد نسبتها في حالة الانفعال وتخرج معها مادة أخرى يقوم الجسم بفصلها عن الإندورفينات هذه المادة وهي الأدرنالين مهمتها تهيئة الجسم لمواجهة المواقف العصيبة فيزداد النبض ويرتفع ضغط الدم.
وفي بعض الأحيان يولد بعض الأطفال ولديهم عدم القدرة على الإحساس بالألم وعادة ما يموتون في سن صغيرة حيث تفرز أجسادهم الإندورفينات بكميات كبيرة عن المعتاد.
كما ربط العلماء بين زيادة إفراز هذه المادة بالجسم وبعض الظواهر الغريبة مثل قدرة البعض على النوم على الزجاج أو النوم على المسامير، ونوم أحد الأطفال في الفرن رغم اشتعاله ولم يشعر بحرارة الفرن.
وبعد اكتشاف العلاقة النظرية بين زيادة إفراز الإندورفينات بالجسم وعدم الإحساس بالألم قام الأطباء بالاستفادة منها بطرق متعددة، ففي حالات الولادة أصبح يتم تسكين الألم عن طريق التخدير النصفي باستعمال الأدوية المخدرة موضعيًّا بتركيزات أقل من المعتاد مضافًا إليها مواد مورفينية خارجية بكميات ضئيلة جدًّا حتى يتم تسكين ألم المريضة دون إعاقة حركاتها أثناء الولادة.
وبنفس الطريقة يتم الاستفادة منها في حالات تسكين آلام ما بعد العمليات الجراحية، حيث يتم استعمال أدوية التخدير الموضعي بتركيز خفيف جدًّا مع كمية ضئيلة من المورفين الخارجي للحصول على تسكين للألم دون التأثير على حركة المريض وقدرته على التنفس، بالإضافة إلى الوصول لأطول فترة ممكنة من تسكين الألم.
وهكذا نرى الإعجاز في خلق الله تعالى، فكما وضع في أجسامنا مجسات الإحساس بالألم، جعل لنا الإندورفينات لتقينا من الإحساس به إذا كان أكثر من طاقتنا على الاحتمال