والسؤال الذي يطرح نفسه هنا، ما هي المبررات التي تجوّز لعاقل أن يقول بهذا القول، أو أن يعتقد هذه العقيدة ؟ والجواب أن هذا القول تشكل من أسباب متداخلة يأتي في مقدمتها الجهل بأصول دين الإسلام، وما جاء به القرآن، وهو جهل دفع بأصحابه إلى التعلق بأهداب معتقدات شرقية ضالة كسعي البوذيين للاتحاد بالإله، كطريق وحيد وممكن للتخلص من آلام الحياة ودورة التناسخ، أو معتقدات غربية كقول النصارى بحلول الله في جسد المسيح - عليه السلام -، وكذلك قول بعض الفلاسفة بتأليه الطبيعة، وأخيراً وليس آخراً قول المعتزلة والجهمية بأن الله في كل مكان بذاته . هذه الأسباب وغيرها هي التي أدت إلى القول بوحدة الوجود أو حلول الله في خلقه واتحاده بهم .
حجج أصحاب القول بوحدة الوجود
ومع أن نشوء هذه البدعة كان بسبب خلل نفسي، وامتداد خارجي، لا يمت للإسلام بصلة، إلا أن القائلين بها أبوا إلا أن يلبسوها ثوبا إسلامياً، ويستدلوا لها من كلام الله وكلام رسوله، فقال بعضهم: إن المراد بقوله سبحانه: { هو الأول والآخر والظاهر والباطن }(الحديد:3) أن كل ما يتصور موجوداً فهو إما أول، أو آخر، أو ظاهر، أو باطن، فإذا كان الله تعالى هو الأول، والآخر، والظاهر، والباطن لا غيره، كان الكون هو الله؛ لأنه لا يخرج عن هذا الوصف . وأيدوا هذا القول بما أخرجه الإمام أحمد عن أبي هريرة عن النبي – صلى الله عليه وسلم – أنه قال: ( والذي نفسي بيده لو أنكم دليتم بحبل إلى الأرض السفلى لهبط على الله ) .
والجواب عن هذا من وجوه:
الوجه الأول: أن الذي يستدل بالقرآن يلزمه أن يؤمن به كله، ولا يستدل ببعضه دون بعض، وفي القرآن من الآيات التي تفرق بين الخالق والمخلوق، ما لا يمكن حصرها لكثرتها، من ذلك قوله تعالى: { والله خلقكم من تراب }(فاطر:11) فأثبت – سبحانه - خالقا ومخلوقاً، فكيف تركت تلك الآيات الصريحة، وتمُسك بما لا تصح دلالته على المطلوب، كما سيتضح .
الوجه الثاني: أن الآية المستدل بها تتكلم عن موصوف واحد هو الله سبحانه، فهي تصفه بأنه الأول الذي لا شيء قبله، والآخر الذي لا شيء بعده، والظاهر بآياته ودلائله، والباطن المحتجب الذي لا يرى في الدنيا. والمستدل يستدل بها على الكون كله، وهو ما يأباه سياق الآية، ومنطوقها، بدليل عود الضمير "هو" إلى مذكور سابق في الآية وهو قوله: { سبح لله .. }(الحديد:1)، فكيف يرجع الضمير في الآية المستشهد بها على ما لا وجود له سابق في سياق الآيات.
الوجه الثالث: أن المستدِّل لو أكمل قراءة الآية التالية لعلم بطلان استشهاده، فالله أعقب قوله تعالى { هو الأول والآخر والظاهر والباطن وهو بكل شيء عليم } بقوله: { هو الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام }(الحديد:4) وهي دليل صريح على أن الخالق غير المخلوق .
الوجه الرابع: أن الحديث المذكور حديث ضعيف، قال عنه الذهبي في ميزان الاعتدال: ( منكر )، وقال الهيتمي في "مجمع الزوائد": " رواه أحمد وفيه الحكم بن عبد الملك وهو ضعيف". ولو سلمنا بصحة الحديث فلا دلالة فيه على مذهب وحدة الوجود، فإن الحديث يقول: ( لو دليتم حبلاً لهبط على الله )، فالله إذاً غير الحبل، والله غير الأرض، والله غير السموات، والله غير الذين دلّوا الحبل، فالحديث يدل على بطلان عقيدة وحدة الوجود لا تأييدها. وأما معنى الحديث - لو صحّ - فقد قال الإمام الترمذي : " فسر أهل العلم الحديث فقالوا: أي لهبط على علم الله تعالى وقدرته وسلطانه " فالحديث إنما عنى به النبي – صلى الله عليه وسلم - شمول علم الله سبحانه، وعموم قدرته وسلطانه .
واستدلوا أيضاً بقوله تعالى: { سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق }(فصلت:53)، قالوا: معنى الآية { حتى يتبين لهم أنه الحق } أي: الكون كله هو الله سبحانه .
والرد على هذا الاستدلال من وجهين:
الوجه الأول: أن الآية تتكلم عن ثنائية متقابلة، الأولى: هي التي سَتُرِي وهو الله عز وجل، والأخرى هي التي سَتَرى وهم الخلق، فهناك من سيُري، وهناك من سيرى، وهذا ما يبطل عقيدة القول بوحدة الوجود القائمة على نفي هذه الثنائية.
الوجه الثاني: أن الله أعقب الآية المستدل بها، آية أخرى تتوعد الذي يشكون في لقاء الله، ما يؤكد أن الخالق غير المخلوق، قال تعالى:{ ألا إنهم في مرية من لقاء ربهم ألا إنه بكل شيء محيط }(فصلت:45).
هذا بعض ما استدل به أصحاب وحدة الوجود من آيات قرآنية وأحاديث نبوية ذكرنا بعضها ليتبين للقارئ مدى الانحراف في الفهم الذي يمارسه هؤلاء في استدلالهم بالقرآن على ضلالهم.
ولا ننسى في الختام، أن نضيف على ما سبق بعض الأدلة النقلية والعقلية في إبطال هذه العقيدة الكفرية، ويأتي في مقدمة الأدلة النقلية القرآن كله من أوله إلى آخره، فكل آية من آياته، من وعد ووعيد، وحساب وعقاب، وجنة ونار، وأمر ونهي، هي دليل على بطلان هذه العقيدة وفسادها، وبيان ذلك أن الأوامر والنواهي القرآنية تدل على أن ثمة آمراً ومأموراً، والوعد والوعيد يدلان على أن هناك واعداً وموعوداً، ومتوعِّداً ومتوعَداً، والجنة والنار، يدلان على أن هناك مثيباً ومُثاباً، ومعاقباً ومعاقباً، فالقرآن من أوله إلى آخره يدل على فساد هذه العقيدة وبطلانها، فكيف يتجرأ هؤلاء الضالون على الاستدلال به على منكرهم، وباطلهم، وكله دليل على فساد مذهبهم.
أما العقل فكما تقرر في بدهيات العقول أن الوجود لابد له من موجد، والموجد هو الله، فهل من العقل أن تعكس هذه القضية البدهية، ليقال: أن لا حقيقة للوجود، وأن هذا الخلق ما هو إلا صور وتجليات للخالق، لا شك أن ذلك خطلٌ في العقل، وبعدٌ في التفكير.
ثم إن العقلاء أجمعوا على بطلان مذهب السفسطائية وعدوه منكرا من القول وزورا، وحقيقته إنكار حقائق الأشياء، والتشكيك في وجودها بصورها، وهل عقيدة وحدة الوجود إلا نوع من السفسطة إذ أنكرت حقائق الوجود، وادعت أنه وجود مجازي لا حقيقة له، فما أجمع عليه العقلاء في إبطال مذهب السفسطائية، يلزم أصحاب وحدة الوجود .
وبهذا التقرير يظهر فساد هذا المذهب الكفري وبطلانه، وأنه لا يمت إلى الإسلام بصلة لا نشأة ولا استدلالاً، وأن القائلين به ليسوا سوى مرضى نفسيين، الأولى بهم أن يعالجوا في المستشفيات، لا أن يحاجوا بالعقليات.