لقد ترك القرآن الكريم أثره في نفوس المنافقين فصاروا يعيشون في خوف وحذر دائمين منه، لأنّه يكشف عن خبيئة قلوبهم وينشر على المؤمنين ما أسرّه المنافقون وأبطنوه في طوايا نفوسهم يقول الله تعالى: { يحذر المنافقون أن تنزل عليهم سورة تنبّئهم بما في قلوبهم قل استهزءوا إنّ اللّه مخرج ما تحذرون ولئن سألتهم ليقولنّ إنّما كنا نخوض ونلعب، قل أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزئون، لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم إن نعفُ عن طائفة منكم نعذّب طائفة بأنهم كانوا مجرمين }[111] إلى هذا الحدّ بلغ تأثير القرآن الكريم من نفوس المنافقين فهم يحذرونه حتى قبل أن ينزل، لأنّهم أخفوا في قلوبهم أموراً، والقرآن سيكشفها بصدق لا مراء فيه.
وقد كان لهذه الآيات الكاشفة الفاضحة لطوايا نفوس المنافقين الخبثاء، والّتي جعلته قتادة يسمّي سورة براءة التي ذكرت فيها فيها باسم ( الفاضحة )[112] من شدّة تأثيرها على بعضهم وتفاعل مع ما بقي من هشاشة الإيمان في قلوبهم، فأقلعوا عن النّفاق.
وجاء في تفسير ابن كثير: ( كان رجل ممّن شاء الله أن يعفو عنه يقول: ( اللّهم إنّي أسمع آية أنا أعنى بها، تقشعرّ منها الجلود، توجل منها القلوب، اللّهم اجعل وفاتي قتلاً في سبيلك لا يقول أحد، أنا غسّلت، أنا كفّنت، أنا دفنت، قال فأصيب يوم اليمامة فما من أحد من المسلمين إلا قد وجد غيره )[113]
لقد تسآل المنافقون هذا السؤال العجيب الذي يتبيّن منه خوفهم الدائم على ما تخفيه قلوبهم أن يظهره القرآن ويكشفه يقول الله تعالى مصوّراً حالهم: { وإذا ما نزلت سورة فمنهم من يقول أيّكم زادته هذه إيماناً فأمّا الذين آمنوا فزادتهم إيماناً وهم يستبشرون وأمّا الذين في قلوبهم مرض فزادتهم رجساً إلى رجسهم وماتوا وهم كافرون }[114].
سؤال غريب عجيب لا يقوله إلّا الذين لم يستشعروا وقع السورة المنزلة في قلبه وإلا لتحدّث عن آثارها في نفسه بدل التساؤل عن غيره وهو في الوقت ذاته يحمل رائحة التهوين من شأن السورة النازلة والتشكيك من أثرها في القلوب.
لذلك يجيء الجواب الحاسم ممن لا رادّ لما يقول { فأما الّذين آمنوا فزادتهم إيماناً وهم يستبشرون وأمّا الذين في قلوبهم مرض فزادتهم رجساً إلى رجسهم وماتوا وهم كافرون }.
فأما الذين آمنوا فقد أضيفت إلى دلائل الإيمان عندهم دلالة فزادتهم إيماناً وقد خفقت قلوبهم بذكر ربّهم خفقة فزادتهم إيماناً وقد استشعروا عناية ربهم بهم في إنزال آياته عليهم فزادتهم إيماناً وأمّا الّذين في قلوبهم مرض الذي في قلوبهم رجس من النفاق فزادتهم رجساً إلى رجسهم وماتوا وهم كافرون، وهو نبأ من الله صادق وقضاء منه سبحانه محقّق [115].
فأثر القرآن ومظاهر هذا التّأثير واضحة في الفريقين: في المؤمن: زيادة في الإيمان واستبشار في الوجود، وفي المنافقين: زيادة في الرجس والشّرّ والدّنس، وخاتمة سيّئة، وهو موت على الكفر.
فأثر القرآن مختلف في الفريقين حسب نوع المتلقّي وما لديه من استعدادات لاستقبال المؤثّرات القرآنية أو موانع في أمراض القلوب المتنوّعة، ومنها بالنّسبة للتّأثّر بالقرآن كما يقول ابن كثير: ( فأما الذين في قلوبهم مرض فزادتهم رجساً إلى رجسهم، أي زادتهم شكّاً إلى شكّهم وريباً إلى ريبهم كما قال تعالى: {وننزّل من القرآن ما هو شفاء}[116] وقوله: { قل هو للّذين آمنوا هدىً وشفاء والّذين لا يؤمنون في آذانهم وقر وهو عليهم عمى أولئك ينادون من مكان بعيد }[117] وهذا من جملة شقائهم أن ما يهدي القلوب يكون سبباً لضلالهم ودمارهم كما أن سيئ المزاج لو غذي بما غذي به لا يزيده إلّا خبالاً ونقصاً[118].
خامساً: أثر القرآن الكريم على الجماد:
القرآن له أثر عظيم لأنه كلام الله تعالى وهناك آيات تخبر عن أثر القرآن الكريم على الجبال لو خاطبها الله به وآيات تبيّن أثر القرآن على القلوب المؤمنة التي تحمله.
أمّا أثر القرآن الكريم على الجبال والجوامد فيما لو خاطبها الهل به ففي قوله تعالى: { ولو أن قرآناً سيّرت به الجبال أو قطّعت به الأرض، أو كلّم به الموتى، بل لله الأمر جميعاً، أفلم ييأس الّذين آمنوا أن لو يشاء الله لهدى الناس جميعاً ولا يزال الذين كفروا تصيبهم بما صنعوا قارعة أو تحلّ قريباً من دارهم، حتى يأتي وعد الله، إن الله لا يخلف الميعاد }[119]
يقول سيّد قطب وهذا القرآن العميق التأثير، حتى لا تكاد تسير به الجبال وتقطع به الأرض ويكلّم به الموتى لما فيه من سلطان وقوّة ودفعة وحيويّة.
ولو أنّ الله أراد أن يكون القرآن هكذا، وأن يكون أثره على الجوامد لفعل، ولو أراد الله تسيير الجبال بالقرآن لفعل، ولو أراد الله تقطيع الأرض بالقرآن لفعل، ولو أراد تكليم الموتى بالقرآن لفعل [120].
فهذا هو أثر القرآن على الجبال والأرض والموتى فيما لو خاطبها الله به وكلّفها به وأمرها بتنفيذ ما فيه ولكنّ الله الحكيم سبحانه ما أراد ذلك ( لقد شاء أن يكون القرآن خطاباً للبشر الأحياء ذوي القلوب والنفوس والمشاعر والأحاسيس فلماذا لا يتفاعلون معه ؟ ولماذا لا يسعدون معه ؟[121]
وأخبرنا الله تعالى عن أثر القرآن الكريم على الجبل – فيما لو خاطبه به – فقال تعالى: { لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعاً متصدّعاً من خشية الله، وتلك الأمثال نضربها للناس لعلّهم يتفكّرون }[122]
فإنّ هذا القرآن لو أنزله الله على جبل لرأيته خاشعاً متصدّعاً من خشية الله لكمال تأثيره في القلوب، فإن مواعظ القرآن أعظم المواعظ على الإطلاق، وأوامره ونواهيه محتوية على الحكم والمصالح المقرونة بها [123].
الجبل الجامد يتأثّر بالقرآن لو أنزله الله عليه، سيتصدّع هذا الجبل من تأثير القرآن ويخشع هذا الجبل من خشية الله، ولكن الله تعالى ما شاء ذلك، إنما شاء إنزال القرآن على بشر وليس على جبل، فأنزله على قلب سيّد الخلق محمد صلى الله عليه وسلم وتأثّر بالقرآن وتفاعل معه.
وهذا القرآن خطاب للإنسان، فلماذا لا يتأثّر كيانه بهذا القرآن، ولماذا لا يخشع قلبه من خشية الله منزّل هذا القرآن ؟
وقد ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما عمل له منبر – وقد كان يوم الخطبة يقف إلى جانب جذع من جذوع المسجد، فلما وضع المنبر أول ما وضع، وجاء النبي صلى الله عليه وسلم ليخطب، فجاوز الجذع إلى المنبر، فعند ذلك حنّ الجذع، وجعل يئن كما يئن الصبي الذي يُسكّت، لما كان يسمع من الذكر والوحي عنده، وهكذا هذه الآية. إذا كانت الجبال الصّمّ لو سمعت كلام الله وفهمته لخشعت وتصدّعت من خشيته، فكيف بكم وقد سمعتم وفهمتم [124].
ويصوّر سيّد قطب تأثير القرآن في الجماد أبلغ تأثير فيقول: ثم يجيء الإيقاع الذي يتخلل القلب ويهزّه، وهو يعرض أثر القرآن في الصخر الجامد لو تنزّل عليه: { لو أنزلنا هذا القرآن..... }
وهي صورة تمثل حقيقة فإن لهذا القرآن لثقلاً وسلطاناً وأثراً مزلزلاً، لا يثبت له شيء يلتقّاه بحقيقته، ولقد وجد عمر بن الخطاب رضي الله عنه عندما سمع قارئاً يقرأ من سورة الطور: { والطّور وكتاب مسطور في رقّ منشور والبيت المعمور والسقف المرفوع والبحر المسجور إن عذاب ربّك لواقع ما له من دافع } فارتكن إلى الجدار، ثم عاد إلى بيته يعوده الناس شعراً مما ألمّ به.
واللحظات الّتي يكون فيها الكيان الإنساني متفتّحاًَ لتلقّي شيئاً من حقيقة القرآن يهتزّ فيها اهتزازاً ويرتجف ارتجافاً، ويقع فيه من التغيّرات والتحوّلات ما يمثّله في عالم المادّة فعل المغناطيس والكهرباء بالأجسام أو أشد، والله خالق الجبال، ومنزل القرآن، والّذين أحسّوا شيئاً من حسّ القرآن في كيانهم يتذوّقون هذه الحقيقة تذوّقاّ لا يعبّر عنه إلّا النّصّ القرآنيّ المشعّ الموحي [125].
الإعجاز النفسيّ في القرآن العظيم أو تأثير القرآن وفاعليّته في الأفئدة:
إنّ تأثير القرآن في القلوب قد بلغ مبلغاً عظيماً لم يعرف قبله ولا بعده كلام قط، إذ تلحق قلوب سامعيه وأسماعهم روعة وخشية وتعتريهم هيبة وتهيمن عليهم عظمة، ترى آثاره على الجاحدين أبلغ وأظهر، إذ يقرعهم ضلالهم ويقيم عليهم حججاً لا معقّب لها فيستغلّون سماعه ويتولّون عنه بنفور مدبرين. قال تعالى: { وإذا ذكرت ربّك في القرآن وحده ولّوا على أدبارهم نفوراً }[126]
وقد شعر بعض زعماء الشرك أن القرآن قد تملّك قلوبهم، وأحسّوا في أعماقهم هزّة روعته فكانوا يستخفون من الناس ويسترقون السمع إليه ليلاً، ورأوا آثاره في أتباعهم الذين تخالط بشاشة الإيمان قلوبهم بين عشية وضحاها من تأثير الآية والآيتين والسورة والسورتين، يتلوهما رسول الله صلى الله عليه وسلم أو أحد أصحابه فتناقد إليه نفوس كانت متعصّبة للأوثان فتهجرها وتتلى بهدي القرآن علماً وعملاً، أدباً وخلقاً، فأدرك زعماء الشرك شدّة أثر وخطر القرآن على سلطانهم ونفوذهم، فأوصوا أتباعهم أن يحولوا بينه وبين أنفسهم. قال تعالى: { وقال الّذين كفروا لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه لعلّكم تغلبون }[127]
ونذكر شدّة تأثّر عتبة بن ربيعة والوليد بن المغيرة بالقرآن وكيف احتال الوليد لصرف الناس عنه فقال: { إن هذا إلّا سحر يؤثر }.
وما قصّة إسلام زعيمي الأوس أسيد بن حضير وسعد بن معاذ إلّا شاهد على ذلك.
وقد ورد في الصحيح عن جبير بن مطعم قال: (( سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ في المغرب سورة الطّور فلما بلغ الآية { أم خلقوا من غير شيء أم هم الخالقون أم خلقوا السماوات والأرض بل لا يؤمنون، أم عندهم خزائن ربك أم هم المسيطرون }[128] كاد قلبي أن يطير للإسلام[129] وفي راوية أخرى وذلك أوّل ما وقر الإيمان في قلبي [130].
إن تأثير القرآن ونفاذه يستحيل أن تتحصّن دونه القلوب، فإنّه لو أنزل على قمم الجبال لغلقها وشققها بما يودعه فيها من هيبة الله وجلاله ألا ترى أنّه يعتري من لا يفهم معانيه ولا يعلم تفاسيره من العوام من الخشوع والسكينة وزيادة الإيمان ما لا يخفى، وذلك كلّه من دلائل معجزاته وعظيم آياته الدالّة على نبوّة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم.
وهذا الفضيل بن عياض، مسلم لكنّه كان قاطع طريق، يسلب المال ويسفك الدماء، استمع ذات ليلة إلى قارئ يتلو: { ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله وما نزل من الحقّ ولا يكونوا كالّذين أوتوا الكتاب من قبل فطال عليهم الأمد فقست قلوبهم وكثير منهم فاسقون}[131] [132]
فتاب وحسنت توبته حتى أصبح من كبار الصالحين المقتدى بهم، فهل كلام يحدث جميع هذه الآثار يدعو به رجل أمّيّ لا دولة له ولا سلطان، هل يكون إلا كلام رب العالمين