الملاحظة الأولى: ما هي حقيقة التّأثّر بذكر الله وتلاوة القرآن الكريم:
هذه الحقيقة تتحدّث عنها الصّحابيّة أم الدرداء من خلال تجربة عاشتها متأثّرة من آيات القرآن الكريم، فوجل قلبها، فقالت تصف هذا الوجل: ( الوجل في القلب كاحتراق السعفة، أما تجد له قشعريرة ؟ قال بلى، قالت: إذا وجدت ذلك فادعوا الله عند ذلك، فإن الدعاء يذهب ذلك )[63].
يقول سيد قطب ( إنها الارتعاشة الوجدانية التي تنتاب القلب المؤمن حين يذكر الله في أمر أو نهي، فيغشاه جلاله، وتنتفض فيه مخافته، ويتمثل عظمة الله ومهابته إلى جانب تقصيره هو وذنبه، فينبعث إلى العمل والطاعة )[64]
الملاحظة الثانية: ما هي مظاهر التأثر بالقرآن ؟
يقول سيد قطب مبيّناً هذه المظاهر: ( والقلب المؤمن يجد في آيات هذا القرآن ما يزيده إيماناً، وما ينتهي به إلى الاطمئنان ) إن هذا القرآن يتعامل مع القلب البشري بلا واسطة ولا يحول بينه وبينه شيء إلا الكفر الذي يحجبه عن القلب، ويحجب القلب عنه فإذا رفع هذا الحجاب بالإيمان وجد القلب حلاوة هذا القرآن، ووجد في إيقاعاته المتكررة زيادة في الإيمان تبلغ إلى الاطمئنان، وكما أن إيقاعات القرآن على القلب المؤمن تزيده إيماناً، فإن القلب المؤمن وهو الذي يدرك هذه الإيقاعات التي تزيده إيماناً [65].
اطمئنان القلوب:
إن اطمئنان القلوب مرحلة تأتي بعد إيمان عميق، وسماع واعٍ وتدبّر للقرآن فإذا عاشت القلوب على هذا المنوال تصل إلى مرحلة من الاطمئنان إلى وعد الله في كتابه الذي لا تحرّكه الزلازل، إنها القلوب المطمئنّة التي بلغ فيها القرآن مبلغاً من التأثير فقال تعالى: { الذين آمنوا وتطمئنّ قلوبهم بذكر الله، ألا بذكر الله تطمئنّ القلوب }[66]. ( أي هؤلاء تطمئن قلوبهم على الدوام بذكر الله لأنها تسكن وتستأنس بتوحيد الله فتطمئن ) وقال مجاهد وقتادة: تطمئن قلوبهم بالقرآن الكريم[67].
يقول الألوسي: أن قلوبهم تستقر وتسكن بذكر الله أي بكلامه المعجز الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وسبب اطمئنان قلوبهم بذلك علمهم أن لا آية أعظم[68].
ويقول سيد قطب ( تطمئنّ بإحساسها بالصلة بالله، والأنس بجواره، والأمن في جانبه وحماه تطمئن من قلق الوحدة وحيرة الطريق بإدراك الرحمة في الخلق والمبدأ والمصير وتطمئنّ بالشعور بالحماية من كل اعتداء ومن كل خروق ومن كل شر إلا بما شاء ألا بذكر الله تطمئنّ القلوب ).
ذلك الاطمئنان بذكر الله في قلوب المؤمنين حقيقة عميقة يعرفها الذين خالطت بشاشة الإيمان قلوبهم فاتصلت بالله يعرفونها ولا يملكون بالكلمات أن ينقلوها إلى الآخرين الذين لم يعرفوها لأنها لا تنقل بالكلمات، إنما تسري في القلب فيستروحها ويهش لها ويندي بها ويستريح إليها ويستشعر الطمأنينة والسلام[69].
إن النفس البشرية بحاجة إلى الاطمئنان في الأمور الهامّة، فهي تريد الاطمئنان بعد الحياة ماذا بعد الحياة ؟ يجيب القرآن على ذلك { فأما من أوتي كتابه بيمينه فيقول هاؤم اقرؤوا كتابيه، إني ظننت أني ملاقٍ حسابيه، فهو في عيشة راضية، في جنّة عالية، قطوفها دانية، كلوا واشربوا هنيئاً بما أسلفتم في الأيام الخالية }[70].
هكذا يجيب القرآن على هذا التساؤل الداخلي في النفس الإنسانية، فيضع أمامها الحقائق في يسر وسهولة، وتأثير بالغ فتطمئنّ إلى ما تعمله، إن كان خيراً، فموت، ثم بعث ثم حساب ثم جنه، وإن كان شراً فموت ثم بعث ثم حساب ثم نار.
إذا فلا طريق إلى طمأنينة القلوب وسعادتها وأنسها وبهجتها إلّا بذكر الله لا بغيره، فالسبب الوحيد لطمأنينة القلوب وشفائها من أمراض وزوال قلقها ووحشتها هو ذكر الله.
ذكر الله بمدلوله الواسع الشامل لكل ما يذكر الله أو يُذكر الله به، ما يذكر الله من العلوم النافعة والأدلة القاطعة في الآيات البيّنات الناطقات أو المشاهدات، وما يذكر به الله من سائر الأذكار والعبادات، وإقامة الأحكام والمعاملات على شرع الله.
ويجمع ذلك العلم بما نزل الوحي والعمل به فذلك هو الطريق إلى طمأنينة القلوب وسعادتها في الدنيا والآخرة، قال الله تعالى مشيراً إلى هذه الحقيقة: { فمن تبع هداي فلا يضلّ ولا يشقى، ومن أعرض عن ذكري فإنّ له معيشة ضنكاً ونحشره يوم القيامة أعمى، قال ربّ لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيراً، قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى }[71] [72]
سجود وخشوع:
ويزداد أثر القرآن في النفوس فيجعلها طيعة لأوامره، منقادة لإشارته مستلهمة لما فيه تخشع أجسادهم في سجود، وتلهج ألسنتهم بذكر الله، وتنفطر أقدامهم في قيام الليل والناس نيام، وتفيض أنفسهم قبل أيديهم بالإنفاق في سبيل الله. قال تعالى: { إنما يؤمن بآياتنا الذين إذا ذُكّروا بها خرّوا سجّداً وسبّحوا بحمد ربّهم وهم لا يستكبرون، تتجافى جنوبهم عن المضاجع يدعون ربّهم خوفاً وطمعاً ومما رزقناهم ينفقون }[73]
قال ابن كثير: ( إنما يؤمن بآياتنا أي يصدّق بها الذين استمعوا لها وأطاعوها قولاً وفعلاً وسبّحوا بحمد ربّهم وهم لا يستكبرون عن اتّباعها والانقياد لها. تتجافى جنوبهم عن المضاجع: يعني بذلك قيام الليل وترك النوم والاضطجاع على الفرش الوطيئة يدعون ربّهم خوفاً من وبال عقابه وطمعاً في جزيل ثوابه)[74].
ويقول سيد قطب: ( وهي صورة وضيئة للأرواح المؤمنة اللطيفة المرتجفة من خشية الله وتقواه المنحنية إلى ربّها بالطاعة المتطلّعة إليه بالرجاء، في غير ما استعلاء ولا استكبار، هذه الأرواح هي التي تؤمن بآيات الله وتتلقاها بالحس المتوفّر والقلب المستيقظ والضمير المستنير.
هؤلاء إذا ذكروا بآيات ربهم ( خرّوا سجداً ) تأثّراً بما ذُكّروا به، تعظيماً لله الذي ذكروا بآياته وشعوراً بجلاله الذي يقابل بالسجود أول ما يقابل[75].
هذه أهم مظاهر تأثّرهم بالقرآن الكريم إذا سمعوا آياته سجود سريع، وتواضع واستكانة وقيام في الليل يخافون العذاب يطمعون في الثواب وكلّ هذه خلال لذواتهم وتزكية لنفوسهم وأما لغيرهم ولمجتمعهم، فقد أثّر القرآن في تصرّفهم، فجعل أيديهم سخاء بالإنفاق مما رزقهم الله. قال تعالى: { ألم يئن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله وما نزل من الحق }[76]
ويقول إسماعيل البرسوي: ( ألم يجيء وقت أن تخشع قلوبهم لذكره تعالى وتطمئن به ويسارعوا إلى طاعته والامتثال لأوامره والانتهاء عما نهوا عنه من غير توان ولا فتور )[77].
قشعريرة الجلود:
يقول الله تعالى عن القرآن العظيم: { الله نزّل أحسن الحديث كتاباً متشابهاً مثاني تقشعر منه جلود الّذين يخشون ربّهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله، ذلك هدى الله يهدي به من يشاء، ومن يضلل الله فما له من هاد }[78]
فالقرآن بشهادة الحق تبارك وتعالى أحسن الحديث وهو الذي تقشعر منه جلود الذين يخشون ربّهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله، وهو هدى الله عز وجل يهدي به من يشاء من عباده وأما الذين يصدفون عن آيات الله ويتركونها وراء ظهورهم فقد قال الله فيهم: { فمن أظلم ممن كذّب بآيات الله وصدف عنها سنجزي الذين يصدفون عن آياتنا سوء العذاب بما كانوا يصدفون }[79] [80]
ويقول د.وهبة الزحيلي: ( أن الله نزّل أحسن الحديث وهو القرآن الكريم لما فيه من الخيرات والبركات والمنافع العامّة والخاصّة وهو كتاب يشبه بعضه بعضاً في مجال النظم وحسن الأحكام والإعجاز – إذا ذكرت آيات العذاب اقشعرّت جلود الخائفين لله، وتضطّرب النفس وترتعد بالخوف مما فيه من الوعيد ثم تسكن وتطمئنّ عند سماع آيات الرحمة[81].
وورد عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما قالت: (( كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم إذا قرئ عليهم القرآن كما نعتهم الله تدمع أعينهم وتقشعرّ جلودهم، قيل لها: فإن أناساً اليوم إذا قرئ عليهم القرآن خرّ أحدهم مغشيّاً عليه ))[82].
وقال ابن كثير: ( فهذه صفة الأبرار عند سماع كلام الجبّار المهيمن العزيز الغفّار لما يفهمونه من الوعد والوعيد والتخويف والتهديد، تقشعرّ منه جلودهم من الخشية والخوف، ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله لما يرجون ويؤمّلون من رحمته ولطفه فهم مخالفون لغيرهم من الفجار من وجوه:
أحدها: إن سماع هؤلاء، هو تلاوة الآيات وسماع أولئك، نغمات الأبيات من أصوات القينات.
الثاني: أنهم إذا تليت عليهم آيات الرحمن خرّوا سجّداً وبكيّاً بأدب وخشية ورجاء ومحبّة هؤلاء لم يكونوا عند سماع الآيات متشاغلين لاهين عنها، بل مصغين إليها فاهمين بصيرين بمعانيها فلذا إنما يعلمون بها ويسجدون عندها عن بصيرة لا عن جهل ومتابعة لغيرهم.
الثالث: إنهم يلزمون الأدب عند سماعها كما كان الصحابة رضي الله عنهم عند سماعهم كلام الله من تلاوة رسول الله صلى الله عليه وسلم تقشعرّ جلودهم ثم تلين مع قلوبهم إلى ذكر الله،لم يكونوا يتصارخون ولا يتكلّفون بما ليس فيهم بل عندهم من الثبات والسكون والأدب والخشية ما لا يلحقهم أحد في ذلك، ولهذا فازوا بالمدح من الرب الأعلى في الدنيا والآخرة[83].
إن مسألة التأثير غير قاصرة على القرآن ولا على المؤمنين به وإنما قد تحدث من كل ما يسمعه الإنسان ويعقله، ولكن كلّ مؤثّر وله نتائجه في حياة الأفراد والمجتمعات.
بكاء ودموع:
قال الله تعالى: { لتجدنّ أشدّ الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا، ولتجدنّ أقربهم مودّة للذين آمنوا الذين قالوا إنّا نصارى ذلك بأنّ منهم قسيسين ورهباناً وأنهم لا يستكبرون، وإذا سمعوا ما أُنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق يقولون ربنا آمنا فاكتبنا مع الشاهدين }[84]
يقول سيد قطب: ( فهذا مشهد حي يرتسم من التصور القرآني لهذه الفئة من الناس، الذين هم أقرب مودّة للذين آمنوا، إنهم إذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول من هذا القرآن اهتزّت مشاعرهم ولانت قلوبهم وفاضت أعينهم بالدمع تعبيراً عن التأثّر العميق العنيف بالحق الذي سمعوا، والذي لا يجدون له في أوّل الأمر كفاء من التعبير إلا الدمع الغزير، وهي حالة معروفة في النفس البشرية حين يبلغ بها التأثر درجةو أعلى من أن يفي بها القول، فيفيض الدمع ليؤدي مالا يؤديه القول وليطلع الشحنة الحبيسة من التأثّر العميق العنيف.
ثم هم لا يكتفون بهذا الفيض من الدمع ولا يقفون موقفاً سلبياً من الحق الذي تأثّروا به هذا التأثّر عند سماع القرآن، والشعور بالحقّ الذي يحمله والإحساس بما له من سلطان إنهم لا يقفون موقف المتأثّر الذي تفيض عيناه بالدمع ثم ينتهي أمره مع هذا الحق، إنما هم يتقدّمون ليتّخذوا من هذا الحقّ موقفاً إيجابياً صريحاً موقف القبول لهذا الحق والإيمان به والإذعان لسلطانه وإعلان هذا الإيمان وهذا الإذعان في لهجة قويّة صريحة عميقة [85].
السكينة تنزل على قارئ القرآن تملها إليه الملائكة سواءً أكان فرداً أم جماعة.
ويستحبّ البكاء عند تلاوة القرآن، يقول الغزالي: ( البكاء مستحبّ مع القراءة، والطريق في تحصيله أن يحضر قلبه الحزن، بأن يتأمّل ما في القرآن من الوعيد والتهديد والمواثيق والعهود، ثم يتأمّل تقصيره في ذلك، فإن لم يحضر حزن وبكاء كما يحضر الخواص فليبك على فقد ذلك منه، فإنه من أعظم المصائب [86].
وروي عن محمد بن المنكدر أنّه بينما هو ذات ليلة يصلّي بكى وكثر بكاؤه، ففزع أهله فتمادى في البكاء، فأرسلوا إلى صاحبه أبي حازم، فجاء إليه فإذا هو يبكي، فقال له يا أخي: ما الذي أبكاك ؟ قال رُعت أهلك ؟ فقال: مرّت بي آية من كتاب الله عز وجل، قال ما هي ؟ قال: قول الله عز وجل: { وبدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون }[87]
فبكى معه أبو حازم واشتدّ بكاؤهما، وكان أبو بكر الصديق رضي الله عنه رقيق القلب إذا قرأ القرآن لم يملك عينيه من البكاء.
وصلّى عمر بن الخطاب رضي الله عنه الصبح إماماً بالناس، فقرأ سورة يوسف، فبكى حتّى سالت دموعه على ترقوته وسمعوا بكاءه من وراء الصفوف[88].
والأمثلة على ذلك كثيرة لا يتّسع المقام لذكرها كلّها.
ويستحبّ البكاء عند قراء ة القرآن والتباكي لمن لا يقدر عليه والحزن والخشوع قال تعالى: { ويخرّون للأذقان يبكون }[89] وفي الصحيحين عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: (( اقرأ عليّ القرآن )) قال: فقلت يا رسول الله أقرأ عليك وعليك أُنزل ؟ قال: (( إني أستثني أن أسمعه من غيري ))، فقرأت النساء حتى إذا بلغت: { فكيف إذا جئنا من كلّ أمّة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيداً } رفعت رأسي أو غمزني رجل إلى جنبي فرفعت رأسي فرأيت دموعه تسيل [90].
وقد وصف الله تعالى الذين أنعم عليهم من النبيين بقوله: { إذا تتلى عليهم آيات الرحمن خرّوا سجّداً وبُكيّاً }[91]
وقال الآلوسي: ( أي أن قلوبهم فزعت استعظاماً لشأنه الجليل وتهيّباً منه جل وعلا )[92]
وقال القرطبي: ( أن الله وصف المؤمنين في هذه الآية بالخوف والوجل عند ذكره وذلك لقوّة إيمانهم ومراعاتهم لربّهم وكأنّهم بين يديه )[93]
وهكذا كان حال سلفنا الصالح – رضوان الله عليهم – إذا سمعوا آيات الله تتلى عليهم أصغوا سمعهم، وفتحوا قلوبهم، فتخشع الجوارح، وتلين الجلود، وتقشعرّ الأبدان، وتبكي العيون من خشية الله.