يجدر بنا أن نشير في هذا البحث إلى معنى كلمة ( عجز ) في كل من اللغة والاصطلاح، وقد يلحظ الباحث في معاجم اللغة العربية أن علماء اللغة – خاصّة أصحاب المعاجم – قد ركّزوا اهتمامهم على مصدر الكلمة وطرق الكشف عنها – أما المادّة الاشتقاقيّة فلم تنل حظّاً وافراً من حيث الترتيب الاشتقاقي.
الإعجاز لغة:
قال الراغب الأصفهاني في مفرداته ( عجُزُ الإنسان ): مؤخّره، وبه شبّه مؤخّر غيره، قال الله تعالى: { كأنّهم أعجاز نخل منقعر }[4].
والعجز أصله: التأخر عن الشيء وحصوله عند عجز الأمر أي مؤخّره، وصار في التعارف اسماً للقصور عن فعل الشيء وهو ضد القدرة.
وأعجزت فلاناً وعجّزته، وعاجزته، أي جعلته عاجزاً [5].
قال الله تعالى: { فاعلموا أنّكم غير معجزي الله }[6] وقال أيضاً { ما أنتم بمعجزين في الأرض }[7] هذا عن المعنى اللغوي للجذر الثلاثي للمادة (العجز).
أما الإعجاز ( فهو مصدر الفعل الرباعي أعجز ) فهنا فعلان:
الأول: فعل ثلاثي تقول: عَجَزَ، يَعْجِزُ، عجز، فهو عاجز بمعنى ضعف عن فعل الشيء وقصر عن التنفيذ وتأخّر عن العمل المطلوب ولم يقدر عليه.
الثاني: فعل رباعي نقول: أعجَزَ، يُعْجِزُ، عجزاً فهو معجز، بمعنى سبق وفاز. تقول أعجَزَ الرجل خصمه، بمعنى: فاته وسبقه وفاز عليه وغلبه، بحيث لم يستطع الخصم العاجز إدراكه واللحاق به[8].
معنى إعجاز القرآن:
كلمة إعجاز القرآن مركب إضافي وكلمة إعجاز مصدر: وإضافتها للقرآن الكريم من إضافة المصدر لفاعله، فكأنّ التقدير أعجز القرآن الناس أن يأتوا بمثله، ومعنى هذا أن القرآن الكريم دلّ بما فيه من بيان على أنّه من عند الله، وثبت عجز الناس عن أن يأتوا بمثله وهذا معناه أن القرآن صار معجزاً لهم حيث أوقع بهم العجز والضعف والقصور والتأخر وهو قد تفوّق عليهم وفاتهم وسبقهم.
وقد عرّفه القاضي عبد الجبار رحمه الله بقوله: ( معنى قولنا في القرآن الكريم أنه معجِز أنه يتعذّر على المتقدّمين في الفصاحة فعل مثله، في القدر الذي اختصّ به )[9].
ويقول الأستاذ مصطفى صادق الرافعي رحمه الله ( وإنما الإعجاز شيئان ضعف القدرة الإنسانية في محاولة المعجزة، ومزاولته على شدّة الإنسان، واتصال عنايته، ثم استمرار هذا الضعف على تراخي الزمن وتقدّمه، فكأنّ العالم كلّه في العجز إنسان واحد ليس له غير مدّته المحدودة بالغة ما بلغت)[10].
وقد عرّفه الدكتور صلاح الخالدي حيث قال: ( هو عدم قدرة الكافرين على معارضة القرآن وقصورهم عن الإتيان بمثله، رغم توفّر ملكيّتهم البيانية وقيام الداعي على ذلك وهو استمرار تحدّيهم وتقرير عجزهم عن ذلك )[11]
وممكن تعريفه بأنه ( عجز المخاطبين بالقرآن وقت نزوله ومن بعدهم إلى يوم القيامة من الإتيان بمثل هذه القرآن مع تمكّنهم من البيان وتملّكهم لأسباب الفصاحة والبلاغة وتوفّر الدواعي واستمرار البواعث).
وإعجاز القرآن الكريم للمنكرين له يدلّ على أنّه من عند الله تعالى وليس كلام أي مخلوق آخر فلو كان كلام بشر لما عجز المنكرون عن معارضته.
والخلاصة: إن الإعجاز لغة واصطلاحاً قد جاءا متقارباً وذلك في بعض المعاني كالضعف والتثبيط والتقصير وما وقع في تلك الدائرة من معان.
المعجزة في القرآن الكريم:
ورد في القرآن الكريم استعمال مشتقات كلمة ( عجز ) نحو ست وعشرين مرة لكنه لم يرد استعمال مصطلح معجزة ولا ( إعجاز ) في القرآن الكريم ولا في السنة ولم يكن معروفاً هذا الاصطلاح في عهد النبوة والصحابة والتابعين إنما عُرف في أواخر القرن الثاني تقريباً[12].
وأطلق القرآن الكريم على المعجزة عدّة مسمّيات منها:
1-الآية: قال الله تعالى: { وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن جاءتهم آية ليؤمنّن بها قل إنّما الآيات من عند الله وما يشعركم أنّها إذا جاءت لا يؤمنون }[13]
2-البيّنة: قال موسى عليه السلام لفرعون { قد جئتكم ببيّنة من ربّكم فأرسل معي بني إسرائيل }[14]
3-البرهان: قال الله تعالى: { يا أيّها الناس قد جاءكم برهان من ربّكم وأنزلنا إليكم نوراً مبيناً }[15]
4-السلطان: قال الله تعالى: { وما كان لنا أن نأتيكم بسلطان إلا بإذن الله }[16] وقال أيضاً:{ ثم أرسلنا موسى وأخاه هارون بآياتنا وسلطان مبين إلى فرعون وملئه }[17] [18].
أما التأثيري:
فهو مركّب إسنادي من أثر الشيء: أي حصول ما يدلّ على وجوده، يقال: أثر الشيء وأثر، والجميع آثار، يقول الله تعالى: { ثم قضينا على آثارهم برسلنا}[19]، ويقول { وآثاراً في الأرض }[20] ويقول { فانظروا إلى آثار رحمة الله }[21]. ومن هذا يقال للطريق المستدل من تقدّم آثار { فهم على آثارهم يهرعون }[22] ويقول { هم أولاء على أثري }[23].
وأثرت البعير: جعلت على خفّه أثره، أي علامة تؤثّر في الأرض ليستدلّ بها على أثره، وأثرت العلم: رويته، أثراً، وإثاره، وأثره، وأصله: تتبعت أثره.[24]
والخلاصة: فالتأثيري في اللغة مأخوذ من الأثر والنتيجة، والمحصلة الدالّة على وجود مؤثّر سواء أكان المؤثر حيّاً كما في قولهم ( أثرت البعير ) أم معنويّاً كما في قول الله تعالى: { فانظروا إلى آثار رحمة الله }. والآثار هي اللوازم المعلّقة بالشيء [25]، أو جملة الأمور التي تنتج عن الشيء المسبب لها.
اصطلاحاً: الإعجاز التأثيري للقرآن: هو ( وجه من وجوه إعجاز القرآن الكريم أشار إليه السابقون، ويتمثّل فيما يتركه القرآن الكريم من أثر ظاهر أو باطن على سامعه أو قارئه ولا يستطيع هذا السامع أو القارئ مقاومته ودفعه ولا يقتصر ذلك على المؤمنين به).[26]
أو هو تأثير القرآن الكريم في النفس الإنسانية عندما تسمعه، وتفاعلها معه حتى لو كانت نفساً كافرة.[27
[center]